وروى الحاكم ، في مستدركه ، من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء ، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام ، بإزاء الميزاب ، فتلا هذه الآية: ( فلنولينك قبلة ترضاها) قال: نحو ميزاب الكعبة. ثم قال: صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة ، عن هشيم ، عن يعلى بن عطاء ، به. وهكذا قال غيره ، وهو أحد قولي الشافعي ، رحمه الله: إن الغرض إصابة عين القبلة. والقول الآخر وعليه الأكثرون: أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق ، عن عمير بن زياد الكندي ، عن علي ، رضي الله عنه ، ( فول وجهك شطر المسجد الحرام) قال: شطره: قبله. ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهذا قول أبي العالية ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وغيرهم. وكما تقدم في الحديث الآخر: ما بين المشرق والمغرب قبلة. [ وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي "]. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلى صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان يصلي معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت.
فالنبي ﷺ إنما يكون هواه تبعًا لمحاب الله وليس مجرد ما تهوى النفس فإن نفسه ﷺ أشرف وأكمل من ذلك، والنفس إذا صار لها ارتياض بالطاعة وارتقت في درجات العبودية، وحصلت لها ألوان الكمالات صار هواها تبعًا لما يرضاه الله -تبارك وتعالى- فقال: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا باعتبار أنها قبلة إبراهيم والنبي ﷺ ينتسب إليه: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فلم يكن ذلك لهوى في نفسه ﷺ باعتبار أن مكة هي أرض الآباء والأجداد، ومنها مُهاجره، وإنما كان ذلك لاعتبارات شرعية. ثم أيضًا هنا مسألة القبلة وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قبلة إبراهيم هذا يحصل به التميز لهذه الأمة، ويحصل به مُباينة هؤلاء الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الأرض، منهم من يستقبل المشرق كالنصارى، واليهود كانوا كما قيل: يستقبلون التابوت الذي كانوا ينقلونه معهم في مغازيهم وأسفارهم، وإذا كانوا في بيت المقدس وضعوه على الصخرة فكانت الصخرة بهذا الاعتبار يستقبلونها؛ لأنهم كانوا يضعون عليها التابوت، فصارت هذه الصخرة بهذا الاعتبار رمزًا لليهود وقبلة لهم لما يوضع عليها من التابوت، ولا أعلم لها أي مكانة عند المسلمين ولا قُدسية ولا يصح أن يوضع عليها قُبة، ولا أن تُجعل شعارًا يرمز لبيت المقدس، فيتبادر إلى الأذهان إذا ذُكر بيت المقدس أن بيت المقدس هو هذه القبة التي على هذه الصخرة، وهذا ليس بصحيح، فهنا هذه القبلة هي شعار ورمز، فلما حولوا إلى الكعبة كان ذلك تمييزًا لهم عن غيرهم.
{قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره و… | London eye at night, London eye, Tableware
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] "قد" هنا دخلت على الفعل المضارع، قد نرى، وبعض أهل اللغة كما هو مشهور يقولون: إن "قد" إذا دخلت على الفعل الماضي فهي للتحقيق، قد جاء زيد، وإذا دخلت على الفعل المضارع فهي للتقليل قد يجود البخيل، وقد يكبوا الجواد، ولكن هذا ليس محل اتفاق بين أهل اللغة، وبصرف النظر هل هي للتقليل أم لا، فالأمر الذين ينبغي أن نُدركه وأن نعلمه ويكون فيه جواب لإشكال وسؤال يرد في مثل هذه المواضع: هو مضمون القاعدة من قواعد التفسير وهو أن قد إذا دخلت على الفعل المضارع هذه المُسند إلى الله -تبارك وتعالى- كما في هذه الآية فذلك للتحقيق، "قد إذا دخلت على الفعل المضارع المُسند إلى الله فهي للتحقيق دائمًا" فإذا قال الله: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [سورة النور:64] يعني: قد علم، وإذا قال: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ أي: قد رأينا، فليس ذلك للتقليل ولا للتكثير وإنما هي للتحقيق، هذا دائمًا، حينما يُضاف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وبهذا ينحل إشكال قد يرد في مثل هذه المواضع، فيكون المعنى قد رأينا، والقرآن جاء على نهج العرب في مُخاطباتها وكلامها، والعظيم منهم يُخرج الكلام هذا المخرج ويقصد به التحقيق.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إبراهيم بن جعفر ، حدثني أبي ، عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم ، قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون البيت الحرام. فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولئك رجال يؤمنون بالغيب ". وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا قيس ، عن زياد بن علاقة ، عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ، ونحن ركوع ، إذ أتى مناد بالباب: أن القبلة قد حولت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان ، وهم ركوع ، نحو الكعبة. وقوله: ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة.
وجاء بالتوكيد بهذا: وَإِنَّ الَّذِينَ [سورة البقرة:144] فإن هذه مؤكدة بمنزلة إعادة الجملة مرتين وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:144] ولاحظ الالتفات في الآية: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [سورة البقرة:144] يتحدث عن غائب: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] فهذا خبر مُضمن معنى الوعيد والتهديد، فالله -تبارك وتعالى- ليس بغافل معنى ذلك أنه سيُجازيهم ويُحاسبهم ويؤاخذهم على ذلك، هذا ما يتعلق بهذه الآية، - والله تعالى أعلم. أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب صلاة التطوع على الدابة وحيثما توجهت به، برقم (1095)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، برقم (700).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا رجاء بن محمد السقطي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا إبراهيم بن جعفر ، حدثني أبي ، عن جدته أم أبيه نويلة بنت مسلم ، قالت: صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون البيت الحرام. فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولئك رجال يؤمنون بالغيب ". وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا قيس ، عن زياد بن علاقة ، عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس ، ونحن ركوع ، إذ أتى مناد بالباب: أن القبلة قد حولت إلى الكعبة. قال: فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو والرجال والصبيان ، وهم ركوع ، نحو الكعبة. وقوله: ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه [ ص: 461] يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة.
تاريخ النشر: ٣٠ / محرّم / ١٤٣٧ مرات الإستماع: 2726 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فلا يزل الحديث في تحويل القبلة فقد قال الله -تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:144] قد نرى تحول وجهك أيها الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في جهة السماء مرة بعد مرة، وذلك أنه ينتظر نزول الوحي في شأن القبلة، فلنصرفك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها وهي المسجد الحرام الكعبة المشرفة، فولي وجهك إليها، وفي أي مكان كنتم وأردتم الصلاة فتوجهوا نحوها، وإن الذين أوتوا الكتاب الذي أعطاهم الله الكتاب من اليهود والنصارى ليعلمون أن ذلك وهو التحول إلى الكعبة أن الحق الثابت من الله بما يجدونه في كتبهم. وما الله بغافل عن هؤلاء من المعترضين المُشككين، وسيُجازيهم على ذلك. يؤخذ من هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة:144] إثبات صفة العلو لله فقد كان النبي ﷺ ينتظر الوحي فيرفع رأسه إلى السماء، وعلو الله -تبارك وتعالى- على عرشه صفة ثابتة في الكتاب والسنة وهي مما تواتر، والأدلة الدالة على ثبوتها تزيد على عشرين نوعًا في الكتاب والسنة، وكل نوع تحته من أفراد الأدلة ما هو معلوم، كما يدل على ذلك أيضًا الفطرة، فإن الإنسان يجد في نفسه نزوعًا إلى العلو حينما يقول: يا الله، فيجد ذلك بفطرته، كما يدل على هذه الصفة أيضًا العقل.
تفسير القرآن الكريم