هذا البيت من هذه الرائية التي أنشدها أبو ليلى النابغة الجعدي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت ينطق بالحكمة أجمع عليه عقلاء العرب في الجاهلية والإسلام إن الرجل لا يُعَدّ حليمًا إذا بقي على حلمه، ورأى الأعداء والمتربصين يأكلون لحمه، ويفسدون دينه، وينتهكون عِرْضه ويتطاولون عليه وهو قادر على أن يدفعهم، ثم يزعم أن ذلك حلم يُحمَد عليه. فليس هذا من الحلم في شيء، ولا هو مما يُمدح به عاقل لا في الجاهلية ولا في الإسلام، ولهذا قال النابغة -رضي الله عنه-: " إذا لم يكن له " أي ذلك الحلم " بوادر " أي: قوة وغضب " تحمي " ذلك الحلم أن يُكَدَّر؛ لأن الناس إذا رءوا ذلك ظنوا ذلك الحلم ضعفًا وعجزًا، أما إذا علموا أن ذلك الحلم قد ينتهي إلى حدّ معين، وأظهر صاحبه ما يدل على قوة حزمه وشكيمته. إذا كان الأمر كذلك مقررًا نقلاً وعقلاً وطبعًا وشرعًا؛ فإن بلاد اليمن بلاد أثنى نبينا -صلى الله عليه وسلم- على أهلها منذ قديم الدهر، وهي ألصق الدول مع غيرها ببلادنا المباركة المملكة العربية السعودية، وهذا الزمان الذي نحيا فيه والعصر الذي نعيشه ظهرت فيه جماعات وطوائف كُثر لا تخفى على أحد، فظهرت جماعة الحوثيين في اليمن منذ سنين غير بعيدة، وكانوا في أول أمرهم يزعمون أنهم يريدون أن يرفعوا ظلمًا ويحقّوا حقًّا ويريدوا إصلاحًا.
إن تمكن مثل هذا الرأي، تمكن مثل هذه القوى، تمكن مثل هذه الفِرق من دولة الإسلام الكبرى من معقل المسلمين إثم عظيم وجرمٌ كبير ينبني عليه أن دفع مثل هذا الظلم ومثل هذا العدوان، وردّ هذا الكيد ودحر هذا البغي من أعظم القربات، ومن الجهاد المشروع في سبيل الله لا يرتاب في هذا مؤمن يعقل كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فكانت أيها المؤمنون ما سمعتموه ورأيتموه مما عرف بعاصفة الحزم ليتحقق قول النابغة الجعدي -رضي الله عنه-: إن حق بلادنا علينا حق عظيم، وفي مثل هذه الأوقات والأحوال وإن كانت السمع والطاعة لولي الأمر هو دين وملة وقربة، أمر الله بها، وأمر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن السمع والطاعة في غير معصية الله في مثل هذه الأوقات والأحوال يتأكد لزوم الجماعة، والحفاظ على لحمة البلاد وأهلها، واجتماع الكلمة، وعدم الفرقة عملاً بقول الله ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]. وأنتم ترون تأييد علماء هذه البلاد العامة منهم والخاصة الرسميون وغير الرسميين لهذا القرار الشجاع، لهذا الملك المبارك؛ أيد الله به سلطان الدين، ونصر الله به حوزة المسلمين، وحمى الله به قبلة الإسلام كلهم صفّ واحد، وقفوا ينبئون عن تأييدهم الشرعي الذي يلقون -عز وجل- به لهذا القرار الحكيم الصائب الشجاع الذي يردّ به تلك الخناجر المسمومة والآثام والبغي عن بلادنا حرصها الله من كل مكروه.
فكيف إذا كان من العلماء المنصفين، يقول محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250- رحمه الله- وقد ولي القضاء وتنقل في بلاد اليمن يقول -بعد أن ذكر كلاماً طويلاً يبين فيه خيانة الرافضة محذراً منهم-: " وهكذا من ألقى مقاليد أمره إلى رافضي وان كان حقيرا فإنه لا أمانة لرافضي قط على من يخالفه في مذهبه ويدين بغير الرفض بل يستحل ماله ودمه عند أدنى فرصة تلوح له؛ لأنه عنده مباح الدم والمال وكل ما يظهره من المودة فهو تقية يذهب أثره بمجرد إمكان الفرصة، وقد جربنا هذا تجريبا كثيرا فلم نجد رافضيا يخلص المودة لغير رافضي " اهـ أدب الطلب. إذن ها هي التجربة تعود ثانية، والتاريخ يتكرر، وما فاجعة المسلمين في العراق والشام منكم ببعيد!! والدول الراعية للسلام لسان حالهم وبعض مقالهم يقول: أحر ما عندكم هو أبرد ما عندي!! والله غالب على أمره!! فأين المتعظون من الرؤساء ومن يدعون الثقافة والتنور والإنصاف؟ ومن أصدق من الله قيلا؟ وقد قال فيهم وفي غيرهم ما صدقه الواقع ( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 8].
والله تعالى يقول: ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 179]، ( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120]. فاللهم احفظنا بحفظك، وآمنا مما نخاف ونحذر، ومكن لولاة أمورنا. اللهم أكشف لنا عدونا من الرافضة، واليهود والنصارى، والمنافقين. اللهم لا تجعل لهم يدًا على مسلم. اللهم انصر من بنصره نصر للدين واخذل من بخذلانه نصر للدين. اللهم أيد جيوشنا بتأييد من عندك، وقوِّ رجال أمننا بالحق بقوة من عندك. اللهم ثبتهم في مواقعهم، واجعل دائرة السوء على من تربص بهم. اللهم اجمع كلمة أهل السنة على الحق وآلف بين قلوبنا في بلاد اليمن، وفي كل بلاد. اللهم اجعلنا نجتمع في هذا الدنيا على طاعتك. سلما على أوليائك، حرباً على أعدائك. اللهم إنا نسألك نصراً لإخواننا في بلاد الشام…
الخطبة الأولى: فموضوع اليوم لا يحتاج إلى طويل مقدمة، ولا تنميق عبارة، ولا تنظير مفوه في كلامه، فهو موضوع ينبئ عن نفسه، وحديث أحداثه تعرب عنه. في ليلة مطيرة في أجواء ربيعية، والناس يعيشون معاني قوله تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم: 48]. وقد أمضوا هزيعاً من ليلهم في نعمة أمن وإيمان، يتفيئون من فضل الله أشكالا وألواناً. فمضت ليلتهم ليعيشوا صباحاً أجمل من ليلتهم أرض مرتوية، وأنفس مطمئنة. ولكن ساء صباح المنذرين، بعد أن قامت الحجة على المعاندين، وإمهال الله بلغ أجله، ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42] أمطر الله قوماً نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم، وهم بدؤكم أول مرة، أمطر الله عليهم مطر الحزم! فانظر كيف كان عاقبة المجرمين؟! وسنة الله -عز وجل- أن يعجل عقوبته للظالمين! أيها الإخوة: تلك ليلة وصبيحة من أعمل سلاحه في بلد الإيمان والحكمة فسفك الدماء البريئة، وأتلف أموالهم، وتقصد معالم الخير في أرضهم فهدم المساجد والمعاهد واستهدف علماء البلد والأئمة والدعاة والمصلحين، وساوم على الأعراض، وعثا في الأرض الفساد بكل ما تحمله الكلمة من غير مبالغة ولا ازدياد.
الخطبة الأولى: الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. وبعد: عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة فإن تقوى الله أزين ما أظهرتكم وأكرم ما أسررتم وأعظم ما ادخرتم قال ربنا في كتابه العظيم ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131]. ثم اعلموا عباد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أظهر الله -عز وجل- دينه، ودخل الناس قبل ذلك في دين الله أفواجًا قدم إليه وفود العرب من كل ناحية، سواء كان ذلك ما بين صلح الحديبية وفتح مكة أو بعد ذلك أو قبله، وممن وفد عليه النابغة الجعدي -رضي الله عنه- صحابي معمّر عُمِّر كثيرًا، وكان يفد على المناذرة قبيل إسلامه، وعُرف بالشعر، فلما وقف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايع وأعلن إسلامه قال: خَلِيلَيَّ عُوجا ساعَةً وَتَهَجَّرا *** وَلُوما عَلى ما أَحدَثَ الدَهرُ أَو ذَرا تَذَكَّرتُ والذِّكرى تَهِيجُ لِذي الهَوى *** وَمِن حاجَةِ المَحزونِ أَن يَتَذَكَّرا وهي مقدمة الوقوف على الأطلال جرت عادة شعراء العرب في ذلك العصر أن يبدءوا بها قصائدهم، ثم مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبيات حتى انتهى -رضي الله عنه وأرضاه- إلى قوله: وَلا خيرَ فِي حِلمٍ إِذَا لَم تَكُن لَهُ *** بَوَادِرُ تَحمي صَفوَهُ أَن يُكَدَّرا فقالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع هذا من النابغة الجعدي قال: " لا يَفْضُضِ الله فاك "، فعاش النابغة إلى أن بلغ مائة وخمسين عامًا ولم تسقط له سِنّ ببركة دعوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
نعم، لا نعاقب أحداً بذنب أحد، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ولكننا لا نأمن مَن عقيدته أذية المسلمين، ومن أفضل قربهم قتل مسلم على غرة واستباحة ماله وعرضه، وما ظلمناهم ولكن هذا ما سطرته كتبهم. فضلاً عما فيها من الكذب على أهل البيت وعموم الصحابي، وسب ولعن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبدع وغلو، وفي كتاب الكافي وهو من أجل كتبهم وأعظمها: " إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة ". والحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى البيت العتيق، وأمثال هذه الخزعبلات والتهورات مشحونة بها كتب أسيادهم ومرجعياتهم.. فالحمد لله الذي هدانا لدينه القويم وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. بعد كل هذا تلك ضربات جوية نصرة للمظلومين، وردعاً للمعتدين، وقياماً بواجب الدين ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال: 72]. تأتي هذه الضربات بالطلعات الجوية المباركة لتقطع الصمت، وتبدد الوجوم، وتشفي صدور قوم مؤمنين، وتذهب غيظ قلوبهم. تأتي ليستبشر بها المؤمنون، ويقرءوا نصر الله من خلال ساعاتها الأولى ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) [آل عمران: 127]، ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الروم: 4- 5] إذن افرحوا وتفاءلوا ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف: 13]، فتح للمستضعفين في بلاد اليمن من الرجال والنساء والولدان الذي لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون.
المسلم هو أحد رجلين إما منَّ الله عليه بالسعة في الرزق والجاه في الناس والحظوة وغير ذلك من نعم الدنيا التي يفيء بها الله -عز وجل- على بعض العباد؛ فلا ينبغي أن يشغله ما هو فيه من نعمة وحسن حال على أن تكون رغبته الأولى وغايته دخول الجنة، فإن الجنة نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع. وإذا كان المسلم ممن ابتلي في الدنيا بضيق الرزق وكثرة العيال وقلة المال والأنصاب والأوجاع والآلام، فهذا أحرى وأولى أن يَسأل الله -عز وجل- الجنة، إذ ثبت في الصحيح وغيره من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه " يؤتى بأعظم الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيقول الله -عز وجل-: اغمسوه في الجنة فيُصبغ فيه صبغة " قيل في أنهارها وكوثرها، ثم بعد أن يصبغ في الجنة صبغة يقال له: " يا ابن آدم هل رأيت شدة؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مرت بي شدة ولا رأيت بؤسًا قط ". وأنت تعلم -أيها المؤمن- أن الجنة ليست دارًا يكذب أهلها، فهذا لم يكذب في قوله، لكن النعيم الذي وجده من تلك اللحظة في الجنة أنساه كل شيء من البؤس والضيق وقلة المال وكثرة الآلام في الدنيا كلها نسيت مع أول دخول له في الجنة.